أربكت الأزمة السياسية التي اندلعت في لبنان بعد إعلان رئيس الوزراء "سعد الحريري" استقالته، في 4 نوفمبر 2017، حسابات "حزب الله"، خاصة أنها جاءت على نحو مفاجئ، توازيًا مع تصاعد انخراط الحزب في الصراع السوري إلى جانب القوات النظامية السورية. وقد بدا هذا الارتباك جليًّا في الرسائل المتناقضة التي وجهها الحزب، وانعكست في الخطابات التي ألقاها أمينه العام "حسن نصر الله" في الفترة التالية على اندلاع الأزمة، وآخرها في 20 نوفمبر الجاري.
هذا الارتباك فرضته الضغوط القوية التي تعرض لها الحزب، سواء بسبب محاولاته مصادرة القرار السياسي اللبناني لصالح مشاركته في الصراع السوري لخدمة أهداف إيران، أو بسبب انخراطه في دعم الميليشيات الإرهابية والمسلحة التي تفاقم من الأزمات الإقليمية القائمة، على غرار الأزمة اليمنية، أو تهدد أمن واستقرار دول المنطقة.
متغيران رئيسيان:
ومن دون شك، فإن ثمة متغيرين ساهما في زيادة حدة هذه الضغوط؛ يتمثل أولهما في تصاعد الاهتمام الدولي بالأدوار السلبية التي يقوم بها الحزب على الساحتين اللبنانية والإقليمية، وهو ما بدا جليًّا في العقوبات الأخيرة التي أصدرها الكونجرس الأمريكي ضد الحزب في 25 أكتوبر 2017، واستهدفت دوره السياسي وموارده الاقتصادية، والتي تلت إعلان الاستراتيجية الأمريكية، في 13 من الشهر ذاته، لمواجهة التهديدات الإيرانية في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بأدوار الميليشيات الموالية لها وفي مقدمتها "حزب الله".
ومن هنا، بدأت اتجاهات عديدة في ترجيح اتجاه الإدارة الأمريكية نحو اتخاذ خطوات إجرائية ضد الحزب داخل وخارج لبنان، قد تصل إلى حد عدم استبعاد استخدام الخيار العسكري، باعتبار أن ذلك يُمثِّل تفعيلًا للاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تسعى من خلالها واشنطن إلى كبح أنشطة إيران الداعمة للإرهاب والفوضى في المنطقة.
هذا الاهتمام الأمريكي يتوازى مع اتساع نطاق الإدانات الدولية للأدوار التي يقوم بها الحزب داخل وخارج لبنان لخدمة أهداف إيران، وهو ما انعكس في تصريحات وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان"، في 12 نوفمبر 2017، والتي أكد فيها أن "عدم تدخل إيران في شئون لبنان شرطٌ مهم لاستقرار المنطقة"، والتي أعقبتها تأكيدات من الخارجية الفرنسية على "ضرورة تمتع السياسيين في لبنان بالمجال الكافي ليمارسوا مسئولياتهم"، في إشارة إلى الضغوط التي يمارسها "حزب الله" على الحكومة من أجل اتخاذ خطوات سياسية تتوافق مع السياسة التي تتبناها إيران خاصة في سوريا.
وينصرف ثانيهما إلى المعطيات الجديدة التي فرضها قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الذي عُقد في 19 نوفمبر بناء على دعوة سعودية لبحث سبل مواجهة التهديدات الإيرانية، والذي خرج ببيان لم يكتفِ بالتنديد بالممارسات التي تقوم بها إيران والميليشيات الطائفية التابعة لها في لبنان وسوريا واليمن؛ وإنما عكس اتجاهًا عربيًّا جديدًا نحو "تدويل" ملف التهديدات الإيرانية، من خلال مطالبة المجموعة العربية في الأمم المتحدة بإجراء اتصالات لعقد جلسة لمجلس الأمن بهدف مناقشة هذه التهديدات.
رسائل متناقضة:
هذه الضغوط المزدوجة أفقدت الحزب زمام المبادرة، ودفعته إلى تبني موقفٍ دفاعي، ساهم في ارتباك موقفه، وهو ما بدا جليًّا في الخطاب الذي ألقاه "حسن نصر الله" بعد يوم واحد من الاجتماع الوزاري العربي، والذي وجه فيه ثلاث رسائل سياسية؛ أولها إعطاء انطباع بعدم مسئوليته عن الأزمة السياسية التي ما زالت مستمرة حتى الآن داخل لبنان، بتأكيده أن الحزب لا يعتبر الحكومة مستقيلة، وهو الخطاب الذي تبنته القوى السياسية الموالية له، والذي قام على ضرورة تقديم "الحريري" استقالته من داخل لبنان، على نحو ما أكده الرئيس "ميشال عون" وغيره من المسئولين اللبنانيين.
وهنا، فإن الحزب يسعى إلى توجيه رسائل بأن ثمة أسبابًا أخرى هي التي دفعت في اتجاه تفجير الأزمة داخل لبنان ترتبط بالمسارات الحالية للتفاعلات التي تجري بين القوى الإقليمية في المنطقة، وانعكاساتها على الأزمات الإقليمية المختلفة، لا سيما الأزمتين السورية واليمنية، وهو ما لا يتطابق مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن انتهاك الحزب للسياسة التي اتبعتها الدولة اللبنانية منذ اندلاع الأزمة السورية والتي تقوم على "النأي بالنفس"، كان السبب الرئيسي الذي تسبب في وصول الأوضاع السياسية في لبنان إلى هذا الحد.
وثانيها، الإيحاء بأن الحزب يتجه إلى اتباع سياسة انسحابية من بعض مناطق الأزمات، وذلك بهدف تقليص حدة الضغوط الدولية والإقليمية المفروضة عليه بسبب تدخله في الصراعات الإقليمية المختلفة. وقد انعكس ذلك في إشارة "نصر الله"، خلال الخطاب الأخير، إلى إمكانية انسحاب قادة وكوادر الحزب من العراق إذا ما تبين أن الهدف الأساسي الذي انتقلوا بسببه إلى العراق قد أُنجز.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن "نصر الله" أكمل هذه التصريحات بتلميحه إلى إمكانية انتقال هذه العناصر إلى ساحات أخرى إذا ما تطلب الأمر ذلك، وهو ما يعني أن العودة إلى لبنان لن تكون الخيار الوحيد بالنسبة للحزب إذا ما قرر -بإيعاز من إيران- الانسحاب من العراق، وأن اليمن أو أية منطقة أخرى ربما تكون ساحة محتملة لانتشار مثل تلك العناصر لدعم الميليشيات الإرهابية الموجودة بها.
وهنا، فإن هذه التلميحات تتناقض مع حرص "نصر الله" نفسه على نفي قيام الحزب بتهريب أسلحة إلى أية دولة عربية بما فيها اليمن، باستثناء الأراضي الفلسطينية، في رده على الاتهامات التي وُجِّهت للحزب بالمشاركة في عملية إطلاق الصاروخ الباليستي على السعودية من اليمن.
وثالثها، الترويج للادعاءات الإيرانية الخاصة بالدور الذي قامت به إيران في الحرب ضد "داعش"، حيث كان "نصر الله" حريصًا على توجيه الشكر للحرس الثوري وقائد فيلق القدس "قاسم سليماني" للدور الذي قاموا به في طرد "داعش" من مدينة البوكمال السورية.
واللافت هنا أن هذه التصريحات توازت مع حرص إيران على الترويج للمزاعم نفسها، على نحو ما برز في تصريحات الرئيس الإيراني "حسن روحاني"، في 21 نوفمبر 2017، التي هاجم فيها الجامعة العربية، وبالغ -إلى حدٍّ كبير- في التركيز على الجهود التي بذلتها إيران في محاربة "داعش"، متجاهلًا -في الوقت نفسه- أن السياسة الطائفية التي تبنتها الأخيرة كانت من الأسباب التي أدت إلى انتشار وتمدد التنظيم في العراق وسوريا خلال الأعوام الأخيرة.
وفي ضوء ذلك، ربما يُمكن القول -في النهاية- إن الحزب يسعى إلى إبعاد نفسه عن الأزمة السياسية الحالية في لبنان، رغم أنه المسئول عنها بشكل رئيسي، وتوجيه رسائل مباشرة بانفتاحه على الجهود التي تبذلها قوى دولية وإقليمية عديدة من أجل الوصول إلى تسوية لها في الفترة المقبلة، دون أن يكون لديه استعداد حقيقي لدعم تلك الجهود، باعتبار أن القرار في النهاية لا يُتخذ في الضاحية وإنما في طهران.